مسرحية "سوبيبور" التي عرضتها فرقة طلبة بجامعة عين شمس بمصر لا تدعو للتطبيع مع دولة إسرائيل ولا ترفع لواء الصهيونية كما ادعى البعض، وليس مطلوبا منها ولا مفروضا عليها أن تعلن موقفا من كل القضايا المتعلقة بفلسطين في ساعة ونصف كنوع من "إبراء الذمة". وهي ليست عن فيلم الهروب من سوبيبور، وهو فيلم جيد في المجمل في توثيق محاولة السجناء التأقلم أو الهرب أوالانتفاضة (أفضل مقارنة بفيلم سوبيبور الروسي العام الماضي) ولا يقدم مثلا مشاهد القتل الجماعي في أفران الغاز بطريقة مباشرة كما فعلت أفلام أخرى، وهو قطعا لا يكرس لفكرة "شعب الله المختار" كما يدعي البعض من منتقدي المسرحية زاعمين انها منقولة عن الفيلم!.
رسم الشخصيات المسلمة بالمسرحية ليس مجحفا ولا يصورها بسخرية ولا بأقل من غيرهم من المحتجزين كما قال البعض (ملاحظة: قد تكون معلومة غير دقيقة وجود المسلمين في نفس المحتشد تحديدا الذي دمر تماما في 1943 ) ولكن معروف انه طوال فترة مجازر اضطهاد اليهود والغجر والمثليين وتحديدا فترة الهولوكوست بعد العام 40 (وليس "حادث" الهولوكوست كما وصفته صفحة رصد الإخوانية) هناك الكثير (مسلمين وغير مسلمين) ممن ساعدوا اليهود المضطهدين وغيرهم من ضحايا النازي بغض النظر عن الدين أو العرق أو الهوية الجنسية الخ.
المسرحية فنيا برأيي المتواضع متوسطة، حوارها مقبول وتنفيذها فيه اجتهاد لكن غير جذاب بما يكفي (ربما بسبب الامكانيات والتدريب، هي مسرح جامعي في النهاية ، بالمناسبة ليس صحيحا انه أغدق عليها بأموال للديكور كما قال البعض لغرض ما، الديكور الجيد ليس مكلفا بالضرورة) لكن بها فكرة جريئة، والممثلون بدوا متحمسين كل يلقي جملته بقدر من الحماس الزائد. الحوار يعرض لنفوس تحت وطأة التعذيب، ومن أفكارهم التي يصرخ بها أحدهم مثلا "نحن شعب الله المختار" . هذا جزء من معتقداته الدينية، كما كثير من الديانات التي لديها أفكار "وأوهام"مشابهة، وبعض التعالي على شعوب/ وأتباع ديانات أخرى. غالبا ما يصدم رجل الدين أو المتدين بحقيقة وضعه فتهتز هذه الصورة. في أفلام مثل God on Trial و "يعقوب الكذاب" في نسخته الأصلية Jakob, der Lügner يكشف الحوار ما يحدث تحت وطأة التعذيب وخلال الأزمة و بمواجهة الموت الوشيك: مراجعة الأفكار والمسلمات وتطور الشخصيات وأفكارها و استعراض اختلافاتها (بحكم انها إما في عنبر مغلق يقادون للموت في الصباح كما في فيلم محاكمة الله أو في جيتو يجري تفريغه قريبا كما في فيلم يعقوب). مثلا، في فيلم "في الظلام" البولندي يقبع هاربون من الموت في شبكة الصرف الصحي ويصطدمون بأفكارهم المسبقة حول أنفسهم وهويتهم وحتى لغتهم (المفضلة) ويراجعون بعض هذه الخيارات. أجواء كهذه تعطي مساحة للابداع وبعض العمق. الحوار في هذه المسرحية مكثف (كان بالفصحى) واستطاع ان يطعم ببعض الافيهيات الضاحكة من وقت لآخر. مسألة الكوميديا في تناول موضوع مأساوي مثل المجازر الجماعية والإبادة، لست من أنصاره، لكن تناولَه بطريقة جيدة وثائقي هو "الضحكة الأخيرة"، وهذه المسرحية كان يمكن أن تكون ضمن مواد بحث هذا الفيلم التسجيلي لو صادفت تنفيذه (انتاج 2016) أو أي رصد شبيه لاحقا. المتخصصون يمكنهم أن يقولوا رأيهم في العمل فنيا.
أصدر فريق العمل المسرحي بيانا لاحقا يوضح موقفه من مسألة التطبيع ومن رفض الانتهاكات التي ترتكبها اسرائيل واختراقاتها للقانون الدولي. البيان مفصل. ما يعنيني انه يمكن ببساطة أن تندد بالهولوكوست وتندد أيضا بأفعال دولة إسرائيل الآن. ليست معضلة ان تتعاطف مع ضحايا وتعارض (وبشدة) أفعال "بعض" أحفادهم أو بني جلدتهم مثلا. معظم ضايا الهولوكوست ماتوا بالفعل، أفعال بعض الناجين منه لا تعني إهالة مزيد من التراب على الموتى.
أخيرا، أن يعلم ويتعلم الناس عن مجازر وحروب عالمية بطرق منها الفن ليس شيئا مدمرا ولا مرعبا، المعرفة لا تضر بل تبني العقول والنفوس. ولم يكن هناك داع لكل هذا الكذب والهجوم على مسرحية تقدم شيئا جديدا مغايرا للمعتاد من مواضيع، وتحميلها أوزار واتهامات. الرغبة في الصراخ حق مشروع للجميع، ويمكن ان تهتف أو تصرخ وتدافع عن قضيتك وتهاجم غيرك أيضا، لكن لا تكذب ولا تفبرك ولا تحرض على الشباب لمجرد ان محاولتهم الفنية هذه لم تعجبك أو انك أغرقت في تأويل ما بها مرتديا ثوب العالم والمؤرخ والناقد والسياسي والحنجوري معا.